الغش : وللغش فنون وجنون
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]ابتسمت لي والرهبة ترسم على محياها الصغير علامات ترقب
حيال ضبطي لها متلبسة بتلك الأوراق الصغيرة المطوية بعناية،
وهي تسحبها بخفة وارتعاش من جيب تنورتها، عيناها علقت بعينيّ لمدة،
وأدرت وجهي عنها بسرعة، وشخصت ببصري بعيدا عبر النافذة إلى السماء،
وحاولت تجاهلها كليا، رغم أنه لا يحق لي كمدرسّة، أنت اليوم «يغلب»
كما يقال أعزكم الله «حمارك» في زمن الغش بالهاتف المحمول،
وتوفر دروس في فنون الغش تجدها موزعة على «اليوتيوب»،
حيثُ تتعلم أنه يمكنك عوضا عن استعمال الحبر الشفاف في الغش،
يمكنك أن تغير ذلك بزجاجة لمشروب «غازي»، ذلك بتغيير ملصقها وتعويضه
بآخر، بعد أن تكون قد كتبت عليه ما تحتاجه من معلومات. بل هناك طلاب
يقدمون رسائل الماجستير وهم لا يملكون فيها غير أسمائهم التي حبرت
على غلاف التقديم، فما بالي أتعب رأسي بهذه البراعم الصغيرة في الغش،
ولم أعد لا مبجلا ولا رسولا، واللحاق بالحافلة والجري اليومي يؤرقني،
وحرب الراتب في آخر الشهر مع الزوج تتعبني، وفاتورات الدفع تتحدف
علىَّ من هنا وهناك، من أراد أن يغش فليغش، هذا زمن شعار
«لن يفلح الصادق»، ابتسمت لنفسي كأنني أنعشها بهذه العبارة،
وألتفت مجددا إلى التلاميذ لأرى هل الأمن والكل على ما يرام فماذا أرى؟
الكل أخرج ما ليده من « براشيم» النقل، وهناك من يقرأ من محموله شيئا،
يا أولاد آخر زمن؟ الغش بالمكشوف؟ بل إن بعضهم يغشش بعض،
ما شاء الله إني أرى في الغش قوة اتحاد وتوطيد صداقات وعلاقات
وعقود مودة ومحبة تبرم، سواء كرهت أم لم تكره، جيل متضامن
سيتخرج مع مرتبة الشرف من تحت أيدينا نحن المدرسين،
فالمثل القائل «عند الامتحان يكرم المرء أو يهان» لم يعد صالحا لزماننا اليوم،
لكن سيكون صالحا في حالة حضور زميلتي التي تشاطرني
مراقبة حصة الامتحان هذه، فهي من المدرسين الذين مازالوا
يتمتعون بقليل من صيحة الضمير، هي تنتمي إلى الجيل القديم
جدا على أي «إذا غابت القطط رقصت الفئران وعربدت»،
ولم أتمم غزل حبل أفكاري إلا وأرى بطرف عيني شبحا واقفا بالباب،
وقد انتفخ أنفه، وارتفع صدره، وبرقت عيناه كأنه رأى هول عاصفة آتية أمامه،
فيتجه بخطوات ثابتة نحوي، ويضرب بقوة على المكتب ويصيح:
«أستاذة سعاد ألا ترين ما أرى؟»، «لا ماذا ترين؟»،
«أرى أنه بلغ الغش الزبى، وأنت في عالم آخر تسبحين»،
«أوضحي!»، «أنت غشاشة مع سبق الإصرار والترصد،
وتغششين التلاميذ وبالواضح»، زمجرت كأسد جائع،
ولم تتركني حتى لأدافع عن نفسي، بل انطلقت إلى الصفوف،
تأمر كل واحد أن يضع محموله ومحفظته على المكتب،
حتى تكون جبل من المحفظات وامتلأ صندوق من الهواتف،
وصاحت أنها إذا ضبطت أي تلميذ في حالة غش فستحوله فورا للتحقيق،
ولا تسمع بعدها في قسم الامتحان إلا طرطقة حذاء العساكر الذي تلبسه،
وأنفاسها المتلاحقة كأنها دخلت معركة حرب، وفعلا ضبطته أخيرًا
وفي يده يخفي علبة كبريت صغيرة، واضعا فيها «براشيم» النقل بكل عناية،
وأقامت الدنيا ولم تقعدها، واستدعت المدير وحوّل الطالب للتحقيق،
وقد يمنع لخمس سنوات من المدرسة، حسب القانون الجديد،
ونظرت إلىَّ نظرة انتصار كاذب، لكن رغم عبقريتها في
أن تقطع أنفاس الغشاشين استمر الغش من تحت لتحت،
وأنا أراقب من تحت لتحت، فحرفية هؤلاء البراعم الصغار في الغش فيها
جنون وفنون.