في سنة 619م وفي معركة طاحنة هُزم الرومان من الفرس -قرب البحر الميت- هزيمة منكرة، ظن الناس ساعتها أن الإمبراطورية البيزنطية لن تقوم لها قائمة بعد اليوم، وكان بطل هذا النصر هو "كسرى الثاني" "590-628م" المعروف بـ"كسرى أبرويز"، وهو ابن "هرمز بن كسرى أنوشروان"، وعلى إثر هذا النصر استولى الفرس على مصر. فحزن المسلمون لأن الرومان أهل كتاب، وفرح المشركون لأن الفرس أهل أوثان، وهم عباد ملوك ونيران. واستغل المشركون هذا الحادث العالمي في طعن الإسلام، فقالوا للمسلمين: "الروم أهل كتاب وقد غلبتهم الفرس، وأنتم تزعمون أنكم ستغلبون بالكتاب الذي أنزل على نبيكم فسنغلبكم كما غلبت فارس الروم"[1] تجاوب قرآني فنزلت سورة الروم تبشر المؤمنين: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} [الروم: 1-4]. كانت مفاجئة أن تنزل آيات كريمة تتفاعل مع الأحداث الدولية الجارية؛ ليعلم الناس أن هذا الكتاب إنما نزل للواقع العملي ولم ينزل فقط للتلاوة والترتيل والتعبد بقراءته. نزلت الآيات حزينة لحزن المسلمين، إنه القرآن يتجاوب مع مشاعر المسلم الصادق، ويدور مع عواطفه، ويترنح مع أحزانه، ويخفف من آلامه، ويبشر بموعود الله، والهدف: أن يفرح المؤمنون. باتت الفرحة التي ترتسم على وجه المؤمن هدفا قرآنيا كريما. باتت مقصدا تتنزل الآيات لتحقيقه، ومحورا دارت عليه آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 14]. وقوله: {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 15]. وقوله: {فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 170]. وقوله: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58]. تفاعل الصحابة مع القضية الدولية ومن فرط فرحة أبي بكر الصِّدِّيق -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- خرج ينادي فِي نَوَاحِي مَكَّةَ: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ}. قال نِيَار بْن مُكْرَمٍ الأسْلَمِيّ[2]: "فقَالَ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ لأبِي بَكْرٍ: فَذَلِكَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، زَعَمَ صَاحِبُكَ أَنَّ الرُّومَ سَتَغْلِبُ فَارِسَ فِي بِضْعِ سِنِينَ؛ أَفَلا نُرَاهِنُكَ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَ: بَلَى، وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الرهَانِ، فَارْتَهَنَ أَبُو بَكْرٍ وَالْمُشْرِكُونَ، وَتَوَاضَعُوا الرهَانَ، وَقَالُوا لأبِي بَكْرٍ: كَمْ تَجْعَلُ الْبِضْع، ثَلاث سِنِينَ إِلَى تِسْعِ سِنِينَ، فَسَمِّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ وَسَطا تَنْتَهِي إِلَيْهِ، فَسَمَّوْا بَيْنَهُمْ سِتَّ سِنِينَ، فَمَضَتْ السِّتُّ سِنِينَ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرُوا، فَأَخَذَ الْمُشْرِكُونَ رَهْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا دَخَلَتْ السَّنَةُ السَّابِعَةُ ظَهَرَتْ الرُّومُ عَلَى فَارِس، فَعَابَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ تَسْمِيَةَ سِتِّ سِنِينَ؛ لأنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: فِي بِضْعِ سِنِينَ، وَأَسْلَمَ عِنْدَ ذَلِكَ نَاسٌ كَثِيرٌ". وكان من تقدير الله أن يوم انتصار الرومان كان يوم بدر -كما في حديث أبي سعيد قال: "لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس فأعجب ذلك المؤمنين"[3] ـ فكانت فرحة فوق فرحة للمؤمنين، وترحة فوق ترحة في قلوب المشركين. ويظهر من مرويات كتب السُّنة والسير أن حماسة أبي بكر يوم نزول الآيات دفعته إلى عقد رهان مع أمية بن خلف، وقد كان الرهن "خمس قَلائِص"[4]. والقلوص هي الناقة الطويلة القوائم، وهي الشابة القوية. ودفعته فرحته العارمة أيضا -رضوان الله عليه- أن يتحجر واسعا في شأن تحديد السنة المعقود عليها الرهان؛ فاختار مجتهدا العام السادس، رغم أن الْبِضْع ثَلاث سِنِينَ إِلَى تِسْعِ سِنِينَ، "فَعَابَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ تَسْمِيَةَ سِتِّ سِنِينَ؛ لأنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:فِي بِضْعِ سِنِينَ". وذكرت بعض المرويات أن المشركين سألوا ما على أبي بكر من حق الرهان، حينما جاء العام السادس ولم ينتصر الرومان، فذكر ذلك الصحابةُ للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لم يكونوا أحقاء أن يؤجلوا أجلا دون عشر فإن البضع ما بين الثلاث إلى العشر"، فزايدوهم ومادوهم في الأجل ففعلوا "[5]. ثم جاء العام السابع -وكان عام بدر- وانتصر الرومان في 17 رمضان من العام الثاني للهجرة، فذاع النبأ، وعرف الناس صدق القرآن، وخبر سورة الروم؛ فَأَسْلَمَ عِنْدَ ذَلِكَ نَاسٌ كَثِيرٌ، كما أخبرت الرواية الصحيحة التي أوردناها. وإذا كان نصر الرومان قد حدث يوم بدر فهذا يعني أن هزيمتهم هذه كانت أيام حصار الشِعب، وبالتحديد في العام الثامن من البعثة، ولا يخفى عليك المعاناة التي عالجها المسلمون في هذه المحنة، إلا أن هذا الحصار لم يمنعهم من متابعة هذا الحدث الدولي الهام والتفاعل معه. دلالات من وراء الحدث وقد لوحظ أن كثيرا من كتاب السير في عصرنا كثيرا ما يهملون ذكر هذا الحدث المهم، خاصة في سياق سرد أحداث العهد المكي، رغم أهمية هذا الحدث الذي تفاعلت معه الجماعة المسلمة، بل تفاعل معه المشركون في مكة. وهي حادثة جديرة بالدراسة والتأمل؛ لما فيها من دلالات تربوية وفكرية كثيرة، نذكر منها ما يلي: أولا: الوعي السياسي عند الصحابة: هذا الحدث أظهر متابعة المسلمين لأحداث الصراع الدولي القائم في زمانهم، وهذا في حد ذاته يشير إلى وعي سياسي تمتع به الصحابة رضي الله عنهم، ولم يكن شأنهم شأن بعض أهل التدين المغشوش في زماننا من التزام ببعض واجبات الدين ثم وقوف موقف الأعمى الأصم من أحداث البيئة المحيطة بهم. ثانيا: التحليلات السياسية الفاسدة: أظهرت القصة أن المشركين استغلوا انتصار الفرس على الرومان استغلالا فكريا وإعلاميا -في محاولة منهم للطعن في الإسلام والمسلمين- بزعم أن الرومان قد انهزموا وهم أهل كتاب. وهذا يظهر لنا السعي الحثيث الدءوب الذي يبذله المشركون في ترصد أحداث الواقع، ولي أعناق المواقف، في تحليلات سياسية مريضة؛ لخدمة أهدافهم، أو للطعن المباشر في المنهج الإسلامي. ثالثا: التعامل المباشر مع الشارع: أبانت هذه القصة أن أبا بكر مشى يتلو هذه الآيات من سورة الروم، بل "يصيح بها"، كما ورد في حديث نِيَارِ بْنِ مُكْرَم؛ يجهر بهذه البشارة بين ظهراني الناس في نواحي مكة، وفي ذلك درسٌ للمسلم الذي يستحي من إعلان الحق، ودرسٌ للداعية الذي يستحي من إظهار دعوته واضحة جلية بين الناس، في الشوارع والأزقة والمقاهي والأندية، درسٌ في التعامل الإعلامي المباشر مع الرأي العام، والجهاد بالكلمة في سبيل ترجيح كفته نحو الحق. فلربما شرعت دولة الظلم والفساد في حجب الحقيقة عن الرأي العام؛ ومن ثم يتطلب على المؤمنين السير على أقدامهم لتوصيل الخبر الصحيح والحق الصريح للناس في أنديتهم. رابعا: التضامن مع غير المسلم المسالم: لقد تضامن القرآن مع الرومان ضد الفرس، وسمى نصر الرومان على الفرس"نصر الله"، بل جعل هذا النصر بشارة قرآنية خالدة أفرد لها سورة سُميت باسم الروم.. وهذا يبين لك أن الإسلام يفرّق بين الكافر المسالم والكافر المحارب، ويتضامن مع أهل الكتاب في حربهم ضد الوثنية، ويشارك في الأحداث الدولية بفعالية وإيجابية؛ فيدعم الحق ضد الباطل، والضعيف ضد القوي، والمظلوم ضد الظالم، مهما كانت عقيدة الحق، ومرجعية الضعيف، ومذهب المظلوم. وهكذا الإسلام يدعم الشرفاء في كل مكان.. وإنه للمجد بعينه أن تساند دولة الإسلام دولة مظلومة أو شعبا مسكينا في أطراف الأرض "وَمَنْ يَسْتَبِحْ كَنْزا مِنَ المَجْدِ يَعْظُم". كذا كان تفاعل الصحابة مع الأحداث، كما كان الموقف النبوي العام، ينم عن وقفة إيجابية جديرة بالدراسة، وسلوك حضاري مع الآخر غاية في التقدير. |