يعجب القارئ لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم كل العجب حين يطالع حياته صلى الله عليه وسلم بطولها وعرضها؛ ليخرج في النهاية بحقيقة تؤكد أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان عبداً ربانيًّا، خالصاً لله تعالى، كأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن له في حياته كلها إلا أن يتعبد لربه، وليس في هذا أدنى عجب إذا تذكرنا قوله تعالى: ( قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ) الأنعام: 162، 163).
ويكون تناولنا لهذه العلاقة من عدة جوانب، وعلى النحو التالي:
أولا: بحث دؤوب عن الإله المعبود
لم تكن علاقة النبي صلى الله عليه وسلم وليدة اللحظات الأولى للوحي المبارك؛ حين ضمه جبريل عليه وقال له: اقرأ، فقال: «ما أنا بقارئ» فغطه ثانية وثالثة ثم أرسله فقال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ علم الإنسان ما لم يعلم) [العلق: 1: 5] (رواه البخاري). إنما كان صلى الله عليه وسلم يبحث – كما بحث غيره من الحنفاء – عن خالق هذا الكون ورازقه ومدبره، كان صلى الله عليه وسلم يرى هذا الكون الفسيح بسمائه ذات الأبراج، وأرضه ذات الفجاج، وبحاره ذات الأمواج... فلم ير في تلك الآلهة التي عبدتها قريش إلا العجز والضعف، فهي لا تبصر ولا تسمع، ولا تضر ولا تنفع، وحين استحلفه بحيرا بها قائلا: يا غلام أسألك بحق اللات والعزى إلا أخبرتني عما أسألك عنه - وإنما قال له بحيرى ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما - فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: لا تسألني باللات والعزى شيئا، فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما. فقال له بحيرى: فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه. فقال له: سلني عما بدا لك. (البداية والنهاية/ ابن كثير/ ج2/ 284.)
ومما يؤكد هذا ما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: "أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه –وهو التعبد– الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء.
ولهذا قال له ربه عن هذه المرحلة: (وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى) (الضحى:7).
ثانيا: علاقة حب دافق
لقد كانت علاقة النبي صلى الله عليه وسلم بربه علاقة حبيب يتمنى رضا محبوبه، ووصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أعلى مراتب الحب، وهي التي سماها ابن القيم: الخلة، ويصفها ابن القيم بأنها (الخلّة): المرتبة التي انفرد بها الخليلان إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم، والخلة هي المحبة التي تخللت روح المحب وقلبه حتى لم يبق فيه موضع لغير المحبوب. كما قيل:
قد تخللت مسلك الروح مني ولذا سمي الخليل خليلا
وهذا هو السر الذي لأجله - والله أعلم - أمر الخليل بذبح ولده، وثمــرة فؤاده، وفلذة كبده، لأنه لما سأل الولد فأعطيه، تعلقت به شعبة من قلبه، والخلـة منصب لا يقبل الشركة والقسمة، فغار الخليل على خليله أن يكون في قلبه موضع لغيره، فأمره بذبح الولد؛ ليخرج المزاحم من قلبه. فلما وطن نفسه على ذلــك، وعزم عليه عزما جازما حصل مقصود الأمر، فلم يبق في إزهاق نفس الولد مصلحة، فحال بينه وبينه وفداه بالذبح العظيم. (مدارج السالكين (3/28- 31)).
ولقد كان أكبر همِّ النبي صلى الله عليه وسلم أن يزيده الله من هذا الحب الفيّاض، لذا نراه يرفع صوته مناديا مولاه بقوله: "اللهم ارزقني حبك، وحب من ينفعني حبه عندك. اللهم ما رزقتني مما أحب، فاجعله قوة لي فيما تحب. اللهم ما زويت عني مما أحب، فاجعله فراغا لي فيما تحب ". ( رواه الترمذي في الدعوات وقال: حديث غريب، وضعفه الألباني )
وقد فطن النبي لهذا الدعاء من تكرار أخيه دواود له، فعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان من دعاء داود يقول: اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، والعمل الذي يبلغني حبك، اللهم اجعل حبك أحب إلى من نفسي وأهلي، ومن الماء البارد".
وقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت فتنة قوم فتوفني غير مفتون، أسألك حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يقرب إلى حبك".
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو: "اللهم اجعل حبك أحب الأشياء إلي، وخشيتك أخوف الأشياء عندي، واقطع عني حاجات الدنيا بالشوق إلى لقائك، وإذا أقررت أعين أهل الدنيا من دنياهم، فأقرر عيني من عبادتك".
ويزداد هذا الحب والشوق يوما وراء يوم، وساعة بعد ساعة، ولحظة بعد لحظة فتراه يقول: "اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق؛ أحيني ما علمت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي، أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، ولذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك" رواه أحمد في مسنده
ثالثا: عبادة تقوي الحب وتزيده
الحب الصادق لا بد أن يترجم إلى موافقة المحبوب فيما يراد، وإلا كان إدعاء، قال الفضيل: يقول الله عز وجل: كذب من ادعى محبتي، فإذا جنه الليل نام عني، أليس كل حبيب يجب الخلوة بحبيبه، ها أنا مطلع على أحبابي إذا جنهم الليل جعلت أبصارهم في قلوبهم، ومثلت نفسي بين أعينهم، فخاطبوني على المشاهدة، وكلموني على حضوري، غدا أقر عين أحبابي في جنتي:
تنام عيناك وتشكو الهوى لو كنت صبا لم تكُ نائما
وقد كان حب النبي صلى الله عليه وسلم لربه حبا صادقا، ترجمته العبادة والذكر، وكانت عبادته صلى الله عليه وسلم لربه سبحانه تقوي الحب إذا خفت، وتزيده إذا قلّ، لذا رأيناه صلى الله عليه وسلم يقول: "حُبب إليّ الطيب والنساء، وجُعلت قرة عيني في الصلاة" رواه أحمد في مسنده.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا حضرت الصلاة قال: "أرحنا بها يا بلال" رواه أحمد في مسنده.
ولقد دفع هذا الحب رسول صلى الله عليه وسلم أن يستعذب الألم الذين يلقاه في عبادته، فإذا صلى أطال صلاته حتى يشفق عليه من يراه، إنه يقوم حتى تتورم قدماه فإذا سئل من كثرة القيام مع مغفرة ربه قال: "أفلا أكون عبدا شكورا" متفق عليه.
وهذا حذيفة رضي الله عنه يصور لنا حادثة وقعت له مع النبي صلى الله عليه وسلم، صلى فيها مع النبي قيام ليلة، استصعب فيها حذيفة الأمر، لكن النبي صلى الله عليه وسلم استعذبه، فعن حذيفة أنه: صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل فلما دخل في الصلاة قال: "الله أكبر ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة" قال: ثم قرأ البقرة، ثم ركع، وكان ركوعه نحوا من قيامه، وكان يقول: سبحان ربي العظيم، ثم رفع رأسه، فكان قيامه نحوا من ركوعه، وكان يقول: لربي الحمد، لربي الحمد، ثم سجد، فكان سجوده نحوا من قيامه، وكان يقول: سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى، ثم رفع رأسه فكان ما بين السجدتين نحوا من السجود، وكان يقول: رب اغفر لي، رب اغفر لي، قال: حتى قرأ البقرة وآل عمران والنساء والمائدة أو الأنعام. رواه أحمد في مسنده.
وفي رواية: يقول حذيفة: قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقرأ السبع الطوال في سبع ركعات، وكان إذا رفع رأسه من الركوع قال: سمع الله لمن حمده، ثم قال: الحمد الله ذي الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة، وكان ركوعه مثل قيامه، وسجوده مثل ركوعه، فانصرفت وقد كادت تتكسر رجلاي" رواه أحمد في مسنده.
أرأيت مثل هذا الأمر؟! إنه صلى الله عليه وسلم يقرأ السبع الطوال، مبتدأ بالبقرة ومنتهيا بالأنفال والتوبة، مرورا بآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف.
رابعا: معرفة أثمرت الخوف
وقد أثمرت معرفة النبي صلى الله عليه وسلم بربه خوفا وهيبة، فكان صلى الله عليه وسلم في عبادته يخشاه كل الخشية، ويخافه كل الخوف.
وقد قيل: ما فارق الخوف قلباً إلا خَرِب.
وقال آخر: "إذا سكن الخوفُ القلوبَ أحرق مواضع الشهوات منها وطرد الدنيا عنها".
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في دعائه: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك. فقيل له: يا نبي الله آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا فقال e: "نعم إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن عز وجل يقلبها كيف شاء" رواه أحمد في مسنده.
وكان e إذا أقسم قال: "لا ومقلب القلوب" رواه البخاري.
وفي حديث أم سلمة أن النبي e كان يكثر في دعائه أن يقول: "اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"، فقلت: "يا رسول الله ما أكثر دعائك: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" قال: يا أم سلمة إنه ليس من آدمي إلا قلبه بين إصبعين من أصابع الله عز وجل؛ فإن شاء عز وجل أقام وإن شاء أزاغ" رواه أحمد في مسنده.
إنه خوف من لا يأمن مكر الله تعالى.
ولهذا كان صلى الله عليه وسلم أذا رأى غيما أو ريحا عرف الخوف في وجهه، تقول عائشة كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا رأى غيما أو ريحا عرف الخوف ذلك في وجهه فقلت: يا رسول الله الناس إذا رأوا الغيم فرحوا، ورجوا أن يكون فيه مطر، وإذا رأيته عرف في وجهك الكراهة، فقال: "يا عائشة! ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، وقد عذب قوم بالريح" رواه البخاري.
ولما زار عبد الله بن الشخير رسول الله قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل. رواه أحمد.
ولقد كان صلى الله عليه وسلم حريصا كل الحرص ألا يسبقه أحد في هذا الخوف أو هذه الخشية، ولما همّ بعض الصحابة بترك بعض المباحات رجاء خشية الله قال صلى الله عليه وسلم: "أما إني أخشاكم لله وأتقاكم له...." متفق عليه.
وكان خوفه صلى الله عليه وسلم من ربه يترقى به حتى إنه ليخاف أن يسيء إلى مشرك فيناله عقاب الله، فعن عطاء، قال: كان سهيل بن عمرو رجلا أعلم من شفته السفلى، فقال عمر بن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أسر ببدر: يا رسول الله، انزع ثنيتيه السفليين فيدلع لسانه، فلا يقوم عليك خطيبا بموطن أبدا، فقال: لا أمثل، فيمثل الله بي" البداية والنهاية/ ج3/ ص311..
خامسا: في العبادة سعادة
ولم يكن رسول الله يتململ من هذه العبادة التي يقوم بها لربه؛ وإنما كان يشعر بفيض من السعادة يغمر قلبه، روى البخاري ومسلم عن الأسود بن قيس سمعت جندبا يقول: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يمشي إذ أصابه حجر فعثر فدميت إصبعه فقال: "هل أنت إلا إصبع دميت. وفي سبيل الله ما لقيت" رواه البخاري ومسلم.
ومن ذلك، أنه صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى الطائف وحدث سادتها من بني عمرو، كان بنو عمرو لئامًا، فلم يكتموا خبر الرسول صلى الله عليه وسلم بل أغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويرمون عراقيبه بالحجارة، حتى دمت عقباه وتلطخت نعلاه، وسال دمه الزكي على أرض الطائف، وما زالوا به وبزيد بن حارثة حتى ألجأوهما إلى حائط -بستان- لعتبة وشيبة ابني ربيعة وهما فيه، فكره مكانهما لعداوتهما لله ورسوله، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه، فعمد إلى ظل شجرة من عنب، فجلس فيه هو وصاحبه زيد، ريثما يستريحا من عنائهما، وما أصابهما، وابنا ربيعة ينظران إليه، ويريان ما لقي من سفهاء أهل الطائف، ولم يحركا ساكنًا، وفي هذه الغمرة من الأسى والحزن، والآلام النفسية والجسمانية توجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ربه بهذا الدعاء الذي يفيض إيمانًا ويقينًا، ورضى بما ناله في الله، واسترضاء لله: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرفت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تُنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله" تاريخ الطبري (1/554)..
وانظر إليه صلى الله عليه وسلم فيما تحدثنا به أمنا عائشة قالت: ألا أحدثكم عني وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قلنا: بلى. قال: قالت: لما كانت ليلتي التي كان النبي صلى الله عليه وسلم فيها عندي انقلب فوضع رداءه، وخلع نعليه، فوضعهما عند رجليه، وبسط طرف إزاره على فراشه فاضطجع، فلم يلبث إلا ريثما ظن أن قد رقدت، فأخذ رداءه رويدا، وانتعل رويدا، وفتح الباب فخرج، ثم أجافه رويدا، فجعلت درعي في رأسي، واختمرت وتقنعت إزاري، ثم انطلقت على إثره، حتى جاء البقيع، فقام فأطال القيام، ثم رفع يديه ثلاث مرات، ثم انحرف فانحرفت، فأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر فأحضرت، فسبقته فدخلت، فليس إلا أن اضطجعت، فدخل فقال: ما لك؟ يا عائش حشيا رابية؟ قالت: قلت: لا شيء. قال: لتخبريني أو ليخبرني اللطيف الخبير. قالت: قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي فأخبرته. قال: فأنت السواد الذي رأيت أمامي؟ قلت: نعم. فلهدني في صدري لهدة أوجعتني، ثم قال: أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله؟ قالت: مهما يكتم الناس يعلمه الله؟ قال: نعم. قال: فإن جبريل أتاني حين رأيت فناداني فأخفاه منك فأجبته، فأخفيته منك، ولم يكن يدخل عليك وقد وضعت ثيابك، وظننت أن قد رقدت، فكرهت أن أوقظك، وخشيت أن تستوحشي. فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم. قالت: قلت: كيف أقول لهم يا رسول الله؟ قال: قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون" رواه مسلم.
إن الناظر لهذا كله يدرك أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يستعذب هذه الطاعة، ويتذوق حلاوتها، وهذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان؛ أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار" متفق عليه.
وعن عبد الله بن معاوية الغاضري من غاضرة قيس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من فعلهن فقد طعم طعم الإيمان؛ من عبد الله وحده وأنه لا إله إلا الله، وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه، رافدة عليه كل عام، ولا يعطي الهرمة، ولا الدرنة، ولا المريضة، ولا الشرط اللئيمة، ولكن من وسط أموالكم، فإن الله لم يسألكم خيره، ولم يأمركم بشره" رواه أبو داود.
سادسا: علاقة مستمرة
نعم لقد كانت عبادة رسول الله مستمرة لا تنقطع، ولما لا؛ وقد قال له ربه:{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} {99}.
ولهذا كان صلى الله عليه وسلم له في كل حركة ذكر، وفي كل عمل دعاء، حتى عند نومه، وعند أرقه وعند استيقاظه.
لقد حلت العبادة في قلب النبي صلى الله عليه وسلم فأحالته قلبا ربانيا، مما جعل هذه الربانية تفوح على لسانه ذكرا دائما لله ربه، فإذا خلد من نومه أو استيقظ فله دعاء وذكر.
وإذا خلع ثيابه أو لبس فله دعاء وذكر.
وإذا دخل الخلاء أو خرج فله دعاء وذكر.
وإذا غادر بيته أو ولج فله دعاء وذكر.
وإذا صعد مرتفعا أو هبط واديا فله دعاء وذكر.
وإذا رأى ما يسره أو يحزنه فله دعاء وذكر.
وهكذا.....
رأينا إن من أهم مميزات الإسلام أنه دين عبادة مستمرة وطاعة دائمة، ولا تنتهي العبادة فيه بانتهاء شعيرة، أو الفراغ من فريضة، بل العبادة مستمرة مع الإنسان من لحظة تكليفه، إلى لحظة تكفينه، وقد قال الله لنبيه e: ]وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ[.
ومن هنا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحذر من انقطاع العمل ويوضح أن: "أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل " رواه البخاري.
وحين دخل النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة ـ رضي الله عنها ـ ووجد عندها امرأة سأل:" من هذه؟ قالت: فلانة؛ تذكر من صلاتها، قال: مه عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا، قالت عائشة: وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه " متفق عليه.
وقد رأيناه النبي صلى الله عليه وسلم يحذر من هذا التشدد الذي قد يفضي إلى الانقطاع فيقول: "لكل عمل شرّة، ولكل شرّة فترة فمن كانت شرته إلى سنتي فقد أفلح ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك" رواه أحمد.
وعن عبد الله بن عمرو قال: ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجال يجتهدون في العبادة اجتهادا شديدا، فقال: "تلك ضراوة الإسلام وشرته، ولكل ضراوة شرة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى اقتصاد وسنة فلأم ما هو، ومن كانت فترته إلى المعاصي فذلك الهالك" رواه أحمد.
ولهذا رأينا النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق" رواه أحمد.
قال صاحب (عمدة القاري) في شرح صحيح البخاري: وكأنه عليه السلام خاطب مسافرا يقطع طريقه إلى مقصده، فنبهه على أوقات نشاطه التي ترك فيها عمله، لأن هذه الأوقات أفضل أوقات المسافر، والمسافر إذا سار الليل والنهار جميعا عجز وانقطع، وإذا تحرى السير في هذه الأوقات المنشطة أمكنته المداومة من غير مشقة.
وقال الخطابي: معناه الأمر بالاقتصاد في العبادة، أي لا تستوعبوا الأيام ولا الليالي كلها بها؛ بل أخلطوا طرف الليل بطرف النهار، وأجمعوا أنفسكم فيما بينهما، لئلا ينقطع بكم. عمدة القاري/ 1/238.
[/td][/tr][tr][td width="100%"]
[/td][/tr][tr][td class=authorProfile width="100%"]ماجستير الشريعة الإسلامية وعضو مؤسس بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين. [/td][/tr]