من أنواع التلوث البيئي الذي يشكو منه عصرنا (التلوث السمعي) أو (الضوضائي), ويراد به, الضجيج والضوضاء والأصوات العالية, التي تؤذي السمع, وتتعب الأعصاب, وتشوش على العقل, وتقلق الراحة, وتطرد النوم, وتؤثر في حياة الإنسان تأثيراً سيئاً, وخصوصاً المرضى والأطفال, والذين يشتغلون بالعلم والفكر, ويحتاجون أبداً إلى الهدوء.
كثرت أسباب الضوضاء في عصرنا, بسبب انتشار المصانع, واستخدام الآلات, والسيارات والقطارات والطائرات والدراجات البخارية والكهربائية, واستخدام الآلات الميكانيكية ذات الضجيج العالي في البناء, وفي رصف الطرق, ونحوها, واستعمال مكبرات الصوت, وأجهزة المذياع والتلفاز, وأجهزة التكييف, وغيرها, ما جعل المدن الحديثة حافلة بعوامل الإزعاج والإقلاق, وهو ما جعل الناس يفرون إلى الضواحي, والقرى المجاورة, هرباً من جحيم الضوضاء.
والإسلام يوجه الإنسان إلى الاعتدال في كل شيء, ولهذا يكره الجلبة والضوضاء والضجيج بغير مسوغ, لما لها من آثار سيئة في حياة الإنسان, كما يكره الصوت الخافت الذي لا يسمع.
ولقد ذكر لنا القرآن الكريم من وصايا لقمان لابنه, وهو يعظه, وهو رجل آتاه الله الحكمة, هذه الوصية الناصعة (واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير) لقمان: 19
وقد ذم الله تعالى المشركين في القرآن الكريم بقوله (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية) الأنفال: 35. أي صفيراً وتصفيقاًً وضجيجاً, لا ينسجم مع ما يجب للبيت الحرام من توقير, وما ينبغي أن يتوافر للصلاة من سكينة وخشوع.
ومن ذلك: التلبية في الحج, فمطلوب من الحجاج أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية وهم محرمون بالحج, حتى يرموا جمرة العقبة, والتلبية ذكر لله تعالى, ينبئ عن الاستجابة لأمره عز وجل: (لبيك اللهم لبيك, لبيك لا شريك لك لبيك. إن الحمد والنعمة لك والملك, لا شريك لك).
وطالما حججنا واعتمرنا ولبينا فرادى ومجتمعين, واستمعنا للملبين, فلم نشعر بضجيج ولا ضوضاء, لأن من يلبي يؤدي التلبية, وهو يشعر بأنه يتعبد لله تعالى ويتقرب إليه. ومن ذلك: الأناشيد الجماعية, وهي تؤدى منغمة ملحنة مؤثرة, لا يمكن أن تنسب إلى الجلبة والضوضاء. ومن ذلك: صيحات (التكبير) في الحرب, فهذه لها قوتها وتأثيرها في تقوية قلوب الجنود المؤمنين, كما لها تأثيرها في زلزلة قلوب الأعداء.
توجيه الفقه الإسلامي
وعلى ضوء هداية القرآن الكريم, سار الفقه الإسلامي, فمنع الفقهاء في فتواهم إذا أفتوا, وفي قضائهم إذا قضوا: كل ما يضر الإنسان من الضجيج المؤذي, فما كان خاصاً بالإنسان في نفسه, فهو محرم ديانة, وما كان متعدياً إلى غيره فهو محرم ديانة أيضاً, ويزيد أنه من حق ( القضاء) أن يمنعه إذا رفع إليه, ومن حق (المحتسب) أن يمنعه إذا رآه ولم يرفعه إليه أحد.
ومن الفقهاء من قسم الضرر الناتج عن الأصوات إلى قسمين: ضرر يجب درؤه, وضرر يمكن احتماله. ومثال القسم الأول: الأصوات والذبذبات الناتجة عن حركة البوابات: إذ إنها تؤثر في سلامة المباني المجاورة لها.
أما القسم الثاني: من الضرر ينتج عن الأصوات التي تسبب الضيق دون الضرر.
وقد اختلف الفقهاء في حكمهم عليه. فلم يعتبره الفقهاء الأوائل ضرراً يجب درؤه. فمطرف وابن الماجشون, وأصبغ: رأوا عدم إيقاف الغسال والضراب, لمجرد أن ضوضاء عملهما تقلق الجيران, بل ذهب ابن القطان إلى عدم جواز منع أحد من ضرب الحديد في منزله, وإن كان يفعله ليلاً ونهاراً, بشرط أن يعتمد معاشه على ذلك. أما من لحقهم من الفقهاء, فقد كان لهم رأي مغاير. فاعتبروا الصوت والصدى والضوضاء مصدراً للضرر يجب درؤه. فقد وضع قضاة طليطلة, حسب رواية ابن الرامي, قواعد صارمة لمنع وجود الكمادين لما يسببونه من ضرر وضيق للجيران, بما يصدر عنهم من أصوات. كما أعرب القاضي ابن عبد الرافع في تونس عن تفضيله منع بناء حظائر الحيوانات متاخمة للمباني, لما تسببه حركة الحيوانات الدائمة أثناء الليل والنهار من إزعاج قد يمنع الجيران من النوم.
ومن هذا المنطلق , اهتم المسلمون القدامى ببناء المصانع خارج المدن, وبخاصة تلك التي ينتج عنها تلوث صوتي أو كيميائي أو أي صورة أخرى من صور التلوث البيئي.
مكافحة الضوضاء
استنبطت التقنيات الحديثة عدة وسائل وأساليب لمكافحة التلوث الصوتي, مثل:
1- استعمال سدادات الأذن في المناطق التي يكثر فيها الضجيج.
2- منع استعمال آلات التنبيه في السيارات في المناطق المزدحمة.
3- بناء المطارات بعيداً عن المدن لتفادي الأصوات العالية لمحركات الطائرات.
4- استعمال كواتم الصوت في المصانع.
5- نقل المصانع والورش إلى أحياء صناعية بعيدة عن المناطق السكنية.
وغير ذلك من الوسائل التي تمنع وصول الأصوات إلى الأذن, أو تمنع حدوثها عند المصدر.
والإسلام يرحب بالاستفادة من كل هذه الوسائل, وكل ما يبتكره البشر في هذا المجال, عملاً بالمصالح المرسلة, وتحقيقاً لمقاصد الشريعة في الحفاظ على كل ما ينفع الإنسان, ويبعد الضرر عنه. واليوم نقول في أوائل القرن الحادي والعشرين, ومطلع الألف الثالث للميلاد: إن الحضارة في عصر تطور التكنولوجيا, وثورة البيولوجيا, وغزو الفضاء, وثورة الاتصالات والمعلومات, قد جنت على العمران, كما جنت على الإنسان, وأساءت إلى الجمادات من المخلوقات, كما أساءت إلى الأحياء والإنسان.
لقد شكت الكائنات كلها من عبثها بها, وقسوتها عليها, لقد جلبت الفساد على الإنسان, وعلى الحيوان, وعلى الجماد, فأفسدت التربة, وأفسدت الهواء, وأفسدت الماء, وأفسدت الغذاء والدواء, وأفسدت الأرض وجو السماء, وأمسى الإنسان يخشى أن تكون هذه الحضارة هي القاضية عليه, وأن يهلكها العجب والغرور والطغيان, كما أهلك أمماً قبلها من (الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد) الفجر:11-14.
ما أجدرنا أن نتدبر كثيراً ما جاء في القرآن الكريم, من تأشيرات وتحذيرات إلى أمم الحضارات, ومن تحذير إلى أهل الأرض عامة, حين يبلغون درجة من العلم يتأله فيها الإنسان, وينسيه الغرور ربه, فينسيه الله نفسه, وهنا تكون النهاية الأليمة, التي لا يغني فيها علم ولا فن ولا فلسفة ولا صناعة متطورة. وصدق الله العظيم إذ يقول: (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها, أتاها أمرنا ليلاً ونهاراً فجعلناها حصيداً كأن