أما القول الثاني فأن هناك آيات ظاهرها يوجب الفتنة لمخالفته للمحكمات فيراد منها معنى آخر فإن كان التأويل هو إرادة المعنى المخالف للظاهر فيلزم منه أن الذين يريدون الفتنة يطلبون ظاهره وليس باطنه وهو خلاف الآية (ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) ففي القرآن اختلافاً بين الآيات لا يرتفع إلا بصرف بعضها عن ظواهرها إلى معان لا يفهمها عامة الأفهام، وهذا يبطل الاحتجاج الذي في قوله تعالى ﴿أَفَلاَ يَتَدَبّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً ﴾ النساء 82 إذ لو كان ارتفاع اختلاف آية مع آية بأن يقال: إنه أُريد بإحداهما أو بهما معاً غير ما يدل عليه الظاهر بل معنى تأويلي باصطلاحهم لا يعلمه إلا الله سبحانه مثلاً لم تنجح حجة الآية ،فبالتالي القرآن معرض لعامة الأفهام، ومسرح للبحث والتأمل والتدبر، وليس فيه آية أريد بها معنى يخالف ظاهر الكلام العربي، ولا أن فيه أحجية وتعمية.
أما القول الرابع بأن للقرآن له معاني مترتبة بعضها فوق بعض فهذا مما لا ينكر إلا أنها كلها مداليل لفظية تختلف بحسب ذكاء السامع وبلادته وهذا لا يلائم قوله تعالى في وصف التأويل: وما يعلم تأويله إلا الله، فإن المعارف العالية والمسائل الدقيقة لا يختلف فيها الأذهان من حيث التقوى وطهارة النفس بل من حيث الحدة وعدمها، وإن كانت التقوى وطهارة النفس معينين في فهم المعارف الطاهرة الإلهية لكن ذلك ليس على نحو الدوران والعلية كما هو ظاهر قوله: وما يعلم تأويله إلا الله.
أما القول الرابع وهو قول ابن تيميه كما هو واضح ويوافقه المؤلف على كون التأويل يشمل المحكم والمتشابه وأن التأويل ليس من سنخ المدلول اللفظي بل هو أمر خارجي يبتني عليه الكلام، واختلف معه في عد كل أمر خارجي مرتبط بمضمون الكلام حتى مصاديق الأخبار الحاكية عن الحوادث الماضية والمستقبلة تأويل للكلام، وفي حصر المتشابه الذي لا يعلم تأويله في آيات الصفات وآيات القيامة.
ثم يستنتج المؤلف بعد عرضه ورده على هذه الآراء ما يرتئه من معنى للتأويل بقوله (إذا عرفت مما مر علمت: أن الحق في تفسير التأويل أنه الحقيقة الواقعة التي تستند إليها البيانات القرآنية من حكم أو موعظة أو حكمة، وأنه موجود لجميع الآيات القرآنية، محكمها ومتشابهها، وأنه ليس من قبيل المفاهيم المدلول عليها بالألفاظ بل هي من الأمور العينية المتعالية من أن يحيط بها شبكات الألفاظ، وإنما قيدها الله سبحانه بقيد الألفاظ لتقريبها من أذهاننا بعض التقريب فهي كالأمثال تضرب ليقرب بها المقصد وتوضيح بحسب ما يناسب فهم السامع كما قال تعالى: ﴿وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ﴾(2) ﴿إِنّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لّعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾(3) ﴿وَإِنّهُ فِيَ أُمّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيّ حَكِيمٌ ﴾ الزخرف 1-4 )(13)
فأختار بذلك معناً أقرب للتصور المثالي، فتلك المعاني هي حقائق معنوية علاقتها بالقرآن كعلاقة الروح بالجسد، وليس هو من قبيل الألفاظ المفرقة والمقطعة، ولا المعاني المدلول عليه بها، وبتقريب آخر، أن خلف هذا القرآن الذي نقرأه قرآن آخر، وكتاب آخر، وهو معاني مجردة في أم الكتاب، هو المقصود بالتأويل يقول: (أن وراء ما نقرأه ونعقله من القرآن أمراً هو من القرآن بمنزلة الروح من الجسد والمتمثل من المثال – وهو الذي يسميه تعالى بالكتاب الحكيم – وهو الذي تعتمد وتتكي عليه معارف القرآن المنزل ومضامينه، وليس من سنخ الألفاظ المفرقة المقطعة ولا المعاني المدلول عليها بها، وهذا بعينه هو التأويل المذكور في الآيات المشتملة عليه لانطباق أوصاف ونعوته عليه. وبذلك يظهر حقيقة معنى التأويل ويظهر سبب امتناع التأويل عن أن تمسه الأفهام العادية والنفوس غير المطهرة )(14)
ونحن هنا إذا اكتفينا بما أستعرضه من رد على كل المعاني الأخرى للتأويل، نجد أنفسنا ملزمين أن نتوقف قليلاً لاستيضاح ما أختاره من معنى للتأويل، ولعنا نحتاج إلى حركة تأويليه أخرى لنكشف مراده
فما هي تلك الحقيقة الغيبية التي يتكي عليها القرآن الذي نقرأه ؟
فإن كان واضحة ويمكن فهمها فما هي ؟
وإن كانت مما لا تدركه إلا النفوس الطاهرة، فهو تفسير للغامض بشيء أكثر غموضاً وهو ممتنع
ونحن لا نعرف حقيقة يمكن أن يتكي عليها أي نص سوى القيم والحِكم التي تمثل الهدف الأساس من النص أو الكلام، فإن كانت هي، فكيف يحكم على أنها معاني مجردة لا تحيطها حتى شبكة الألفاظ ولا تدركها العقول؟ والقرآن صريح في إنزال هذه الحِكم قال تعالى ﴿ذَلِكَ مِمّآ أَوْحَىَ إِلَيْكَ رَبّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ﴾
ومن ثم ما هي الحكمة المرجوة من إرجاع معنى التأويل إلى أم الكتاب في البيت المعمور؟ فكأنما يقول أن الهدف الأساسي من القرآن ليس هو في ذاته، وإنما هو وسيلة يعرج بها الإنسان إلى الكتاب الأساسي، وهو الحقيقة المعنوية المجردة في أم الكتاب، فلا يكون القرآن إلا تجلي مادي لتلك الحقيقة، وهو المقصودة بالتأويل، فإذا كان الهدف من القرآن هو تلك الحقيقة، وإن هذه الحقيقة لا يدركها إلا الله أو الله والراسخين في العلم من الرسول وأهل بيته، فيكون بذلك القرآن رسالة خاصة لنمازج تعد على أصابع الأيدي، وهو خلاف الحكمة، وخلاف شمولية الخطاب القرآني للجميع، ولا يمكن القول أن معرفة الأمة تتحقق عن طريقهم لأنها تجربة ذاتية معنوية، وليست موضوعية يمكن وصفها، وإلا اكتفينا بوصف القرآن لها واعتبرناها حقيقة للجميع، كما إننا لا نجد في ما جاء عنهم، تأويل لكل الكتاب، مما يعني حرمان هذه الأمة عن كل المعارف التي تتعلق بتأويل القرآن، وهو خلاف حكمة القرآن، الذي يقتضي التذكية والتعليم لكل الناس قال تعالى ﴿ يُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾
يقول الشيخ المحقق محمد هادي معرفة في مناقشة رأي الطباطبائي (غير أن وقفة فاحصة عند كلام هذا المحقق العلامة، تجعلنا نتردد في التوافق معه، إن رحمه الله لو كان اقتصر على ما لخّصه أخيراً، من جعل ملاكات الأحكام والمصالح والغايات الملحوظة في التشريعات والتكاليف تأويلاً، أي أصلاً لها ومرجعها الأساسي لكل ذلك المذكور، لأمكننا مرافقته.
لكنه توسّع في ذلك، وفرض من تأويل آي القرآن كلها أمراً بسيطاً ذا إحكام رصين، ليس فيه شيء من هذه التجزئة والتفصيل الموجود في القرآن الحاضر الذي يتداوله المسلمون منذ أول يومهم فإلى ما لا نهاية، فإن ذلك عارٍ عن كونه آية آية وسورة سورة، وجوداً واحداً بسيطاً صرافاً، مستقراً في محل أرفع، ﴿فِي كِتَابٍ مّكْنُونٍ ﴾(78) ﴿لاّ يَمَسّهُ إِلاّ الْمُطَهّرُونَ ﴾.
وفرض من القرآن ذا وجودين: وجوداً ظاهراً يتشكل في ألفاظ و عبارات ذوات مفاهيم معروفة، وهو الذي يُتلى ويُقرأ ويُدرس، ويتداوله الناس حسبما ألفوه طوال عهد الإسلام.
ووجوداً أخر باطنياً، هو وجوده الحقيقي الأصيل، المترفع عن أن تناله العقول والأحلام، فضلاً عن الأوهام، وذلك الوجود الحقيقي الرفيع هو تأويل القرآن، أي أصله ومرجعه الأصيل)(15).
ويقول (.. قد وصف بكونه ﴿ هُدًى لّلنّاسِ وَبَيّنَاتٍ مّنَ الْهُدَىَ وَالْفُرْقَانِ ﴾ البقرة 185 ومعلوم أن الهداية والبينات، إنما هي بهذا الكتاب الذي يتداولونه، لا بكتاب مكنونٍ عند الله محفوظٍ لديه في مكانٍ عليٍ لا تناله الأيدي والأبصار
كما أن الذي يبتغيه أهل الزيغ لأجل الفساد في الأرض، هو تفسير الآيات على غير وجهها، لا وجوداً آخر للقرآن، هو في أعلى عليين.
فقوله رحمه الله )وأنه موجود لجميع الآيات محكمها ومتشابهها، وأنه ليس من قبيل المفاهيم بل من الأمور العينية المتعالية من أن يحيط بها شبكة الألفاظ..) غير مفهوم لنا )(16)
- مقاربة نصر حامد أبو زيد للتأويل
في البدء يؤكد على أن التراث الإسلامي ضخّم التفسير على حساب التأويل، وأعتبر ذلك محاولة لمصادرة لكل اتجاهات الفكر الديني المعارض، في قبال التفسيرات التي سخرت الدين لخدمة السلطات الحاكمة، يقول في ذلك (وإذا كان مصطلح (التأويل) في الفكر الديني الرسمي قد تحول إلى مصطلح مكروه لحساب مصطلح التفسير، فإن وراء مثل هذا التحويل محاولة مصادرة كل اتجاهات الفكر الديني المعارضة سواء على مستوى التراث أم على مستوى الجدل الراهن في الثقافة. إن وصم الفكر السائد للفكر النقيض بأنه فكر تأويلي يستهدف تصنيف أصحاب هذا الفكر في دائرة ﴿الّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ ﴾. ويتجاوب مثل هذا التصنيف تجاوباً تاماً مع الخطاب السياسي المباشر الذي يصم كل تحركات المعارضة أو الاحتجاج السياسي ضد قرارات السلطة التنفيذية بأنها تحركات تستهدف إثارة الفتنة، وفي مقابل ذلك يكون وصف تأويلات هذا الفكر الرسمي (تفسير) وصفاً يستهدف إضفاء صفة موضوعية و( الصدق) المطلق على هذه التأويلات )(17)
يعتقد بذلك أن المفارقة في التصور الإسلامي، ناتجة عن التنازع بين البنية السلطوية، التي اعتمدت التفسير لتقديم تصور واحد للنص، وبين النزعة العقلية المنفتحة، التي ترى من خلال التأويل اشتمال النص الواحد على تصورات متعددة، وهو يشير بذلك إلى أن الفكر الديني لا يصل إلى غمة المعطى الثقافي والفكري، إلا إذا تحول النص إلى حقل للعمل العقلي بدون إي قيد سلطوي، وبخاصة سلطة التراث، مؤسساً بذلك للتأويل، باعتباره المدخل الوحيد للعمل العقلي الحر في النص، ومن هنا نجده يعرف التأويل، بأنه حركة ذهنية لا تخضع لوسائط خارجية، وإنما انتقال من الذات للموضوع بشكل مباشر ،وهو خلاف للتفسير الذي لا يتحقق قوامه إلا بالتوسط يقول: (لا حظنا في التفرقة اللغوية بين «التفسير» و«التأويل» أن ثمة فارقاً هاماً بينهما يتمثل في أن عملية «التفسير» تحتاج دائماً إلى «التفسرة» وهي الوسيط الذي ينظر فيه المفسر فيصل إلى اكتشاف ما يريد، في حين أن «التأويل» عملية لا تحتاج دائماً هذا الوسيط، بل تعتمد أحياناً على حركة الذهن في اكتشاف «أصل» الظاهرة، أو في تتبع «عاقبتها». وبكلمات أخرى يمكن أن يقوم «التأويل» على نوع من العلاقة المباشرة بين «الذات» و« الموضوع»، في حين أن هذه العلاقة في عملية «التفسير» لا تكون علاقة مباشرة، بل تكون من خلال وسيط قد يكون نصاً لغوياً، وقد يكون شيئاً دالاً، وفي كلتا الحالتين لا بد من وسيط يمثل «علامة» من خلالها تتم عملية فهم الموضوع من جانب الذات )(18)هذا التفريق بين الوسيط واللا وسيط، يمكن أن يفهم إذا جعلنا التأويل هو الخطوة الثانية بعد التفسير، بمعنى أن كل مؤول لابد أن يكون مفسراً، وليس العكس، وإلا اُعتبرت هذه الحركة الذهنية والقفز إلى المغزى حركة غير مؤسسة علمياً، وبالتالي يصبح المعنى الأولي الذي يكشفه التفسير وسيط حتمي للتأويل، كما أن اللغة وسيط حتمي للتفسير، ولذا لا نرى وجهاً لهذا التفريق إلا من جهة أن التأويل هو ساحة العقل التي يعبر بها إلى المغزى.