الجمع بين السوأتين والحيازة على الضلالتين
لقد صدق من وصف أولئك النفر من أهل السنة المنابزين لإخوانهم من أهل العلم بالألقاب، المشتغلين بتصنيف العلماء والدعاة، المعادين لإخوان العقيدة، الموالين، المحامين، المدافعين للنابذين لحكم الله ورسوله وراءهم ظهرياً، المقربين للعلمانيين، والفسقة، والفجار بأنهم خوارج على العلماء والدعاة، مرجئة للمنافقين التعساء، لجمعهم بين السوأتين وحيازتهم على الضلالتين.
اشتغال المرء بتصنيف الناس ومنابزته لهم بألقاب السوء، والحرص على تضليل، وتفسيق، وتبديع الآخرين، من الذنوب العظيمة، والجرائم الوخيمة، ولهذا عندما قيل لابن عمر رضي الله عنهما: ما تقول في فتية شببة ظراف نطاف، يقرأون القران، ويقيمون الليل، ولكن يكفر بعضهم بعضاً؟! فقال: (ماذا تركوا من دناءة الأخلاق إلاَّ أن يكفر بعضهم بعضاً). أو كما قال: إي وربي، فإن هذا السلوك المشين، والخلق اللئيم لا يصدر إلاَّ من الجهال الفارغين.
ولذات السبب عندما طلب نفر من الخوارج من الخليفة الراشد الخامس، والإمام العادل عمر بن عبد العزيز رحمه الله أن ينال من قومه، ويلعنهم، ويتبرأ منهم، ويكفرهم تأبَّى عمر عن ذلك، ولم يجبهم لهذا الطلب الخسيس، والمطلب الرخيص.
قال ابن الجوزي رحمه الله في سيرة عمر بن عبد العزيز1: (حدثنا إبراهيم ابن هشام بن يحي الغساني قال: حدثني أبي عن جدي قال: بلغني أنَّ أناساً من الحرورية2 جمعوا بناحية من الموصل، فكتبت إلى عمر بن عبد العزيز أعلمه بذلك، فكتب إليَّ يأمرني: أنْ أرسِلْ إليَّ منهم رجالاً من أهل الجدل، واعطهم رهناً وخذ منهم رهناً، واحملهم على مراكب البريد إليّ. ففعلت ذلك فقدموا عليه، فلم يدع لهم حجة إلاَّ كسرها، فقالوا: لسنا نجيبك حتى تكفر أهل بيتك، وتلعنهم وتتبرأ منهم. فقال عمر: إنَّ الله لم يجعلني لعاناً، ولكن إن أبقى أنا وأنتم فسوف أحملكم وإياهم على المحجة البيضاء. فأبوا أن يقبلوا ذلك منه، فقال لهم عمر: إنه لا يسعكم في دينكم إلاَّ الصدق، منذ كم دنتم لله بهذا الدين؟ قالوا: منذ كذا وكذا سنة، فقال: هل لعنتم فرعون وتبرأتم منه؟ قالوا: لا، قال: فكيف وسعكم تركه، ألا يسعني ترك أهل بيتي، وقد كان فيهم المحسن والمسيء، والمصيب والمخطئ، قالوا: قد بلغنا ما ها هنا. فكتب إليَّ عمر: أن خذ ما في أيديهم من رهنك ـ يعني ودع من في يدك من رهنهم ـ وإن كان رأى القوم أن يسيحوا في البلاد من غير فساد على أهل الذمة ولا تناول أحد من الأمة فليذهبوا حيث شاءوا، وإن هم تناولوا أحداً من المسلمين وأهل الذمة، فحاكمهم إلى الله. لماذا لم يسع خلف هذه الأمة ما وسع سلفها؟ وما الذي منع من اقتداء آخرها بأولها؟ إذ الخير كل الخير في الاتباع، والشر كل الشر في الابتداع، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلاَّ بما صلح به أولها.
أين سلوك هؤلاء النفر من سلوك سلفنا الصالح، على سبيل المثال لا الحصرمن سلوك علي -رضي الله عنه- مع الخوارج الذين خرجوا عليه، وشقوا عصا الطاعة وكانوا هم والشيعة سبباً رئيساً في الهزائم التي لحقت به رضي الله عنه، بل لم يقف الأمر عند هذا الحد فقد كفروه وبدعوه وفي آخر المطاف قتلوه. عندما سئل عنهم ماذا قال؟ وقد كان يملك الدليل القاطع، والبرهان الساطع على كفرهم وضلالهم من صاحب الشريعة "يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية"، وفي رواية "ثم لا يعودون" عندما قيل له: أكفارٌ هم؟ قال: بل من الكفر فروا، فقالوا: أمنافقون هم؟ قال: المنافقون لا يذكرون الله إلاَّ قليلاً، وهؤلاء ينكر أحدكم صلاته إلى صلاتهم وقيامه إلى قيامهم، فقالوا من يكونوا؟ فقال: إخواننا بالأمس بغوا علينا اليوم.
أي إنصاف هذا؟! وأي تسامح وعلو أخلاق وأدب تحلى به هذا الصاحب الكبير، والخليفة الراشد الحليم؟! لله در الصحابة ما أعمق علمهم.
وبضدها تتميز الأشياء، لنعلم الفرق الواسع، والبون الشاسع بين سلف أهل السنة المصطفين الأخيار، وبين المدعين للسنة والسلفيين من الخلفيين الذين جعلوا همهم الأول، وشغلهم الشاغل معاداة أهل السنة وموالاة أهل الأهواء، أوغض الطرف عنهم حتى تحقق فيهم ما وصف به ابن عباس الخوارج: يقتلون أهل الإسلام ـ اغتيالاً معنوياً ـ ويبقون على أعداء الملة والإسلام، فكانوا بحق خوارج على أهل العلم والسنة، ومرجئة لمن عاداهم.
نمثل لذلك بموقف واحد لإمام من أئمة أهل السنة هو شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ بعد أن نصره الله على خصومه مع مقدرته لإنزال أشد النكال والعذاب، بل والقتل بهم. عفا عنهم عندما قدر عليهم، وقد كانوا سبباً في سجنه، وتعذيبه، وحرمانه من والدته وأهله وتلاميذه، ومن هوايته المفضلة الجهاد لإعلاء كلمة الله، والأمر والنهي لتوضيح منهج الله ورسوله، بل سعوا لقتله، فعلوا كل ذلك فقابل إساءتهم بإحسانه، ومكرهم وغدرهم بعفوه عنهم، وامتنانه عليهم.
قال الشيخ علم الدين البرزالي: (ولما دخل السلطان إلى مصر يوم عيد الفطر، لم يكن له دأب إلاَّ طلب الشيخ تقي الدين ابن تيمية من الاسكندرية ـ حيث كان مسجوناً بها ـ معززاً، مكرماً، مبجلاً فوجه إليه في ثاني يوم من شوال، بعد وصوله بيوم أو يومين، فقدم الشيخ تقي الدين على السلطان يوم الجمعة، فأكرمه وتلقاه ومشى إليه في مجلس حافل، في قضاة المصريين والشاميين، وأصلح بينه وبينهم، ونزل الشيخ إلى القاهرة، وسكن بالقرب من مشهد الحسين، والناس يترددون إليه، والأمراء والجند وكثير من الفقهاء والقضاة، منهم من يعتذر إليه، ويتنصل مما وقع منه، فقال: أنا أحللت كل من آذاني. إلى أن قال: وإن السلطان استفتى الشيخ في قتل بعض القضاة بسبب ما كانوا يتكلمون فيه، وأخرج له فتاوى بعضهم بعزله من الملك، ومبايعة (الجاشنكير) وأنهم قاموا عليك وآذوك أنت أيضاً، وأخذ يحثه بذلك على أن يفتيه في قتل بعضهم، وإنما كان حنقه عليهم بسبب ما كانوا سعوا فيه من عزله ومبايعة (الجاشنكير). ففهم الشيخ مراد السلطان، فأخذ في تعظيم القضاة والعلماء، وينكر أن ينال أحد منهم بسوء، وقال: إذا قتلت هؤلاء لا تجد بعدهم مثلهم، فقال له: إنهم قد آذوك، وأرادوا قتلك مراراً. فقال الشيخ: من آذاني فهو في حل، ومن آذى الله ورسوله فالله ينتقم منه، وأنا لا أنتصر لنفسي، وما زال به حتى حلم عنهم السلطان وصفح.
قال: وكان قاضي المالكية ابن مخلوف يقول: ما رأينا مثل ابن تيمية حرضنا عليه فلم نقدر عليه، وقدر علينا فصفح عنا، وحاجَّ عنَّا)3. ما أحوج أولئك المشايخ والشباب الذين أصبح همهم تصنيف الأخيار، وإيذاء العلماء والدعاة، وهم خير أهل زمانهم، مع حاجة الناس الماسة إليهم، إلى هذا السلوك الرفيع، والخلق العالي من هذا الإمام، وغيره من أهل الإسلام، وفقهاء الملة، والعلماء الاعلام.
أما آن لهذه الفئة أن ترعوى عن ذلك، وتكف عن تجريح، وتضليل، وهجر وتبديع إخوانهم من أهل السنة؟ أما آن لهم أن يراجعوا مواقفهم، ويحاسبوا أنفسهم قبل أن يُحاسبوا عن هذا التنابز بالألقاب، والتراشق بالتهم وسوء الظن؟!
مما يُؤسف له أنهم يتهمون الآخرين بما هم أهل له، وأحق به، حيث يصفونهم بالخروج وهم أكثر تلبساً بسلوك الخوارج منهم، بل جمعوا إلى تلك الرذيلة أخس صفات المرجئة بدفاعهم عن الطواغيت من الحكام، ومحاماتهم عن العلمانيين وعن بطانات السوء متعاونين بذلك مع أعداء الإسلام، ومحققين لكثير من أهدافهم ومطالبهم، علموا بذلك أم لم يعلموا، فإن عالم اليوم أصبحت تحكمه وتسيّره أجهزة الاستخبارات، وتسخِّر لذلك بأصابع خفية وأساليب شيطانية بعض المنتسبين إلى العلم والدين، لضرب إخوانهم، وشل حركتهم، وتجميد نشاطهم، فإذا تحقق لهم ذلك داروا على هؤلاء المسخَّرين فساوموهم سوء العذاب، وأذلوهم، وأهانوهم إنتقاماً لحق الأبرياء، واستجابة لدعوة المظلومين من الأتقياء.
عياذاً بالله من درك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء.
كان أهل السنة فيما مضى من الزمان يداً واحدة على من سواهم من أهل الأهواء، أمَّ الآن فقد أضحى بعضهم معاول هدم لبعضهم الآخر، وأسباب فرقة، ومصدر عداء.
لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن ينسب أحداً إلى الخروج إلاَّ إذا كان هذا الآخر يدين بتلك العقائد:
1. راداً للسنة كلياً أو جزئياً، ومنكراً لحجيتها.
2. مكفراً بالكبائر من غير استحلال لها.
3. يعمل على قتل وسلب أهل الإسلام، ومؤمناً للكفار والمشركين وعباد الأوثان.
4. مكفراً لبعض الصحابة الكرام.
5. خارجاً خروجاً مسلحاً على الحكام المحكمين لشرع الله، مبيحاً لقتلهم وقتل من والاهم.
6. موجباً على الحائض والنفساء قضاء الصلاة.
7. مكفراً أومبدعاً لمن خرج على بدعتهم، وانشطر منهم.
إلخ عقائد القوم وضلالتهم.
أما أن ينسب المرء للخروج لمجرد نصحه، وأمره ونهيه، سراً كانت النصيحة أم جهراً إن لم يجد الأسرار في المخالفات المجمع عليها من أهل الاسلام، فإنَّا نشهد بأن هذا خارج عن أهل البدع والضلال كما قال ذلك سماحة العلامة العثيمين رحمه الله عندما قال ذلك في حق الشيخ سفر بن عبد الرحمن الحوالي حفظه الله أنه خارج على أهل البدع، وقد أعلن ذلك على الملأ، وأخرس المصنف الجائر وألقمه حجراً.
اللهم إنا نسألك أن تؤلف بين قلوب المسلمين عامة، وأهل السنة والسلفيين خاصة، وأن تطهر قلوبهم من الغل، والحقد، والحسد، وأن تجعلهم يداً على من سواهم، وأن تهديهم سبل السلام.
والحمد لله الملك العلاَّم، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للأنام، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان.