ومن هنا كان لزاما علينا أن نعمل العقل والمنطق ثم العلم كي نجد الحل الصحيح لتلك الإشكالية .
فالأصح أن نحاول الآن أن نجد تفسيرا للآيات لا يكون الملائكة أوكتبة اللوح المحفوظ طرفا فيه ، وإلا وقعنا في نفس المأزق ، وواضح أيضا أن سبب حصول هذا الفساد في التفسير يرجع إلى اعتبار آية (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ {1}) أسلوب قسم وهذا مترتب على اعتبار (ن) حرفًا .
وحيث أننا قد عرضنا في الفصل الأول فكرة أن هذه الكلمات ليست حروفا هجائية ، بل كلمات من لغات مقدسة أخرى غير العربية ، فتكون (ن) بدورها ليست حرفا هجائيا بل إنها كلمة مكونة من ثلاثة حروف هي : النون والواو والنون ، ولا بد أن يكون لها معنى .
ولنحاول الآن أن نجد لها التفسير المناسب حسب منهجنا الذي توصلنا إليه .
فكلمة (ن) في اللغة المصرية القديمة تكتب هكذا :
وتعني : هبطوا وانحطوا وغفلوا وتبلدوا .
بل وما تزال نفس الكلمة في اللغة القبطية التي هي الامتداد للغة المصرية القديمة وتكتب هكذا بحروف يونانية وتعني بالإنجليزية " ABYSS" وبالعربية : جهل ، انحط ، فسد .
وتذكرنا هذه المعاني وبالذات معنى "الجهالة" بما ورد في أسباب النزول للآية رقم 17 من نفس السورة :
(إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ {17}) : أخرج ابن أبي حاتم عن ابن جريح : أن أبا جهل قال يوم بدر : خذوهم فاربطوهم في الحبال ولا تقتلوا منهم أحدا فنزلت (إنا بلوناهم . . . . . .) يقول في قدرتهم عليهم كما اقتدر أصحاب الجنة على الجنة (وربما متعلقة بتسميته بأبي جهل) .
وبناء على هذا التحليل اللغوي في المصرية القديمة وأيضا القبطية ، نجد تطابقا في المعنى للفظ (ن) في كل منهما .
ولنحاول الآن أن نفسر السورة في ضوء هذا القبس :
فالمعنى إذن للآيات الأولى لسورة القلم كالآتي :
تبًّا لهم وتبًّا للقلم الذي يسطرون به ، واللسان الذي يتلفظون به ، وتبًّا وسحقًا لما يسطرون وما يكتبون من جهالة ، وما يتقول عليك به الكفار والمكذبون ، وما يتهمونك به من الجنون ، فقد أنعم الله عليك بالنبوة ، وإنه لمجزيك عليه جزيل الأجر ، وإنك لعلى خلق عظيم ، خلق القرآن الكريم ، وسنرى من منكم المفتون : أهم بجهاتهم وانحطاطهم ، أم أنت يا محمد بخلقك وسمو أخلاقك ، ويكفيك أن الله أعلم من منكم الذي ضل عن السبيل ومن منكم المهتدي .
والآية رقم 51 من نفس السسورة تؤكد ما ذهبنا إليه في تفسير الآيات السابقة والرمز ، إذ تقول الآية (وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ {51}) . وأيضا الآية رقم 47 (أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ {47}) تدل دلالة واضحة على أنهم كانوا يستطيعون الكتابة أيضا يتضح من قبل في الجاهلية عندما كانوا يدونون أشعارهم ويعلقونها مكتوبة على جدران الكعبة الشريفة .
والآيات التي كانت كالبلسم يشفي من الداء ومن تلك المعاناة التي عاناها الرسسول الكريم بسبب تكذيبهم وإهانتهم له واتهاماتهم له بالجنون وما كان ليشفي منها لولاها هي : (فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ {44} وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ {45} أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ {46} أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ {47} فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ {48}) .
وعلى هذا يستقيم التفسير . فهم جهلوا وفسدت عقولهم وكلماتهم واتهاماتهم للنبي بالجنون وهو الإنسان الكامل الأخلاق ومن تخلق بغير هذه الخلق فعقابه على الله كما ورد في الآيات .
ولا نستطيع بناء على ذلك اعتبار بداية السورة قسمًا ، لأن الله (إذا أقسم) لا يقسم بشيء باطل وبجهالة يسطرونها أو باتهامات لنبيه بالجنون .
والآية رقم 50 تفيد في إيضاح معنى الرمز وهي نهاية السورة لتكون مع البداية - الرمز - وحدة السورة وبنيانها الأدبي الرفيع .
بالتوفيق للجميع ،
دمتم في رعاية الله وحفظه .